كلمة افتتاحية تُلقيها الدكتورة حنان حسن بلخي المديرة الإقليمية لمنظمة الصحة العالمية لشرق المتوسط في ندوة بمناسبة اليوم العالمي للإيدز: إعادة تصور الاستجابة لفيروس العوز المناعي البشري في إقليم شرق المتوسط: الاستثمار، والتكامل، والاندماج

1 كانون الأول/ ديسمبر 2025

يسعدني ويشرفني أن ينضمَّ إلينا اليوم في هذه الندوة الأستاذ الدكتور أنطوني فاوتشي، والأستاذة الدكتورة وفاء الصدر، ونخبة متميزة من الأطباء والباحثين، والمناصرين الذين كرَّسوا حياتهم لمكافحة واحد من أكثر مسببات الأمراض إثارة للدهشة في عصرنا الحالي.

لقد استحوذ فيروس العوز المناعي البشري على اهتمامي منذ الأيام الأولى لعملي طبيبةً ناشئةً وطبيبةَ أطفالٍ. وعلى مدار سنوات خدمتي، درَّبت المرضى وقدمت لهم الرعاية اللازمة في عصرٍ خلا من أي علاج فعال، وفي زمن كان التشخيص فيه يعني غالبًا مراقبة المرضى، ومنهم الأطفال، يستسلمون للعدوى الانتهازية ويلقون حتفهم.

وأتذكر بوضوح الأطفال حديثي الولادة الذين ولدوا لأمهات مصابات بفيروس العوز المناعي البشري - وهم يحتاجون، على صغر سنهم وضعفهم، إلى مقررات علاجية مكثفة. وتطلب الكثير منهم تركيب أنابيب في المعدة للحصول على الأدوية اللازمة لحمايتهم من تلك العدوى الشرسة التي انتقلت إليهم جراء هذا الفيروس. وأتذكر أيضا الشباب البالغين، الذين أصابهم المرض بهزال شديد وأنهك أجسادهم.

ثم جاء عام 1994، وهو عامي الثاني من العمل طبيبة مقيمة في طب الأطفال، عندما ظهر الأزيدوثيميدين بوصفه من أوائل الأدوات الأساسية للوقاية من انتقال فيروس العوز المناعي البشري من الأم إلى الطفل. فلأول مرة، أمكننا كسر سلسلة انتقال العدوى من الأم إلى المولود الجديد.

ففي التسعينيات حتى أوائل عام 2000، شهد العالم تقدمًا ملحوظًا. إذ ساعد ابتكار توليفة من العلاج بمضادات الفيروسات القهقرية في تحويل الإصابة بفيروس العوز المناعي البشري من حُكم بالموت إلى مجرد اعتلال مزمن يمكن علاجه. وهكذا، نجت أرواح كانت مهددة بالضياع، لولا هذا التدخل.

واليوم، نجد أنفسنا في مرحلة مختلفة تمامًا من هذا الوباء. لقد أصبحت الوقاية من فيروس العوز المناعي البشري وعلاجه أمرًا ممكنًا. وبالرغم من عدم توفر لقاح يحمي من هذا الفيروس حتى هذه اللحظة، فإن الأدوات المتاحة لنا اليوم لم تكن حتى لتخطر على بال أسلافنا؛ فمِن العلاج الوقائي قبل التعرض للفيروس، إلى مبدأ تساوي عدم قابلية الكشف عن الفيروس مع عدم قابلية انتقاله، وصولًا إلى إتاحة الأدوية المضادة للفيروسات القهقرية على نطاق واسع في أنحاء كثيرة من العالم.

ومع ذلك، ينبغي أن نلتفت إلى ما يواجهنا من تحديات، لا سيما في الإقليم الذي أنتمي إليه.

حيث يشهد إقليم شرق المتوسط أسرع معدل نمو لوباء فيروس العوز المناعي البشري في العالم، إذ يعيش فيه نحو 610 آلاف شخص متعايش مع فيروس العوز المناعي البشري، وقد تضاعفت تقريبًا الإصابات الجديدة في أقل من عشر سنوات، فارتفعت من 37 ألف حالة في عام 2016 إلى ما يقارب 72 ألف حالة في عام 2024. ويتركز 80% من هذا العبء في خمسة بلدان.

ولعل أكثر الإحصاءات إثارةً للمخاوف هي أن أقل من أربعة من كل عشرة أشخاص مصابين بفيروس العوز المناعي البشري يعرفون حالتهم، ويحصل أقل من ثلثهم على العلاج. إن مسارنا الحالي يبتعد بشكل ملحوظ عن تحقيق غايات 95 الثلاث. وبينما تتحرك أقاليم أخرى صوب تحقيقها، يتحرك إقليمنا في الاتجاه المعاكس. 

فهنا في الإقليم، لا يتلخص الأمر في مجرد الحصول على الأدوية أو إرساء النظم الصحية اللازمة فحسب، بل يتعلق أيضًا بكيفية طرح الموضوعات المتعلقة بفيروس العوز المناعي البشري. فالوصمة الاجتماعية متغلغلة بجذورها في كل ركن وزاوية، مُسبِّبةً عزوف الأفراد عن إجراء الفحص، والتماسِ العلاج، والتحدث صراحةً عن حالتهم.

إننا مستمرون في التماس أفضل السبل لمزج الحديث عن الضرورات الصحية المُلحة بمراعاة الجوانب الثقافية. وما زلنا ملتزمين بالتواصل مع الناس أينما كانوا، وأن نصون كرامتهم، وأن نمد جسور الحوار معهم، لا أن نضع العراقيل أمامهم.

ونحن لا نملك بالتأكيد إجابات لكل الأسئلة الحائرة. ولكنني أعتقد أن المضي قُدُمًا يتطلب منا الالتزام بما يلي على الأقل:

فينبغي أن تمتزج قيادتنا لهذا العمل بتعامل إنساني رحيم يصون لكل شخص مصاب بفيروس العوز المناعي البشري كرامته واحترامه، بغضِّ النظر عن كيفية إصابته بالفيروس.

وينبغي أيضا التعامل مع فيروس العوز المناعي البشري باعتباره قضية من قضايا الصحة العامة، وليس حُكمًا أخلاقيًّا.

وينبغي مواصلة الاستثمار في البحوث، من أجل التوصل لعلاجات أفضل، ومن أجل ابتكار ذلك اللقاح المنتظَر، الذي من شأنه أن يحقق نقلة نوعية في الوقاية في جميع أنحاء العالم.

وينبغي كذلك أن نضع أيدينا في أيدي القيادات الدينية، وكِبار السن في المجتمعات المحلية، والشخصيات الثقافية المؤثرة التي يمكنها مساعدتنا في ترجمة رسائل الصحة العامة إلى أساليب تحقِّق مردودًا حقيقيًّا على المستوى المحلي.

وأخيرًا، يمكننا أن نبث الأمل في النفوس عبر سرد الأمثلة الإيجابية. فالرحلة التي بدأناها في التسعينيات بتركيب أنابيب في معدة الأطفال، ووصلنا فيها اليوم إلى تمتُّع الأفراد الذين يتلقون العلاج بمتوسط عمر شبه طبيعي، ما هي إلا معجزة بكل المقاييس.

ورغم كل ذلك، فإن عملنا لم ينتهِ بعدُ. فيجب أن نجدد التزامنا بالوصول إلى كل مَن يتعذَّر الوصول إليهم، والقضاء على الوصم أينما وُجد، وضمان أن تعود الأدوات التي ابتكرناها بالنفع على كل مجتمع.