رسالة المدير الإقليمي

طباعة PDF

أصحاب المعالي،

السيدات والسادة الأعزاء،

الزميلات والزملاء الأكارم،

إن يوم الصحة العالمي لهذا العام موجَّه لموضوع التحضُّر والصحة، وهو مجال يتمتع بأهمية بالغة، يستمدّها من التحدّيات الصحية الهائلة التي يشهدها عالمنا المتحضر. لقد فرض التحضُّر السريع آثاره الاقتصادية، والاجتماعية، والبيئية، والصحية، على بلدان إقليم شرق المتوسط. ونتيجة للتزايد السريع في أعداد السكان، وللتغيرات السريعة، في السياسات الاقتصادية والتنموية، تركّزت معظم رؤوس الأموال، والاستثمارات، والمرافق العامة في المدن، واستأثرت المدن الكبرى، والـحَوَاضر المحتشدة بالناس، بمعظم الأعمال غير الزراعية، وبالفرص التعليمية، وبفرص استدرار الدخل. كما تركّزت دعائم نمو الاقتصاد الوطني في المناطق الحضرية. وليس من المستغرب أنه نتيجة لهذه العوامل مجتمعة أن تتجاوز متوسط السكان في الحواضر خمسين بالمئة من مجمل سكان ستة عشر بلداً من بلدان الإقليم الاثنين والعشرين تجاوُزاً كبيراً.

أما الأسباب الرئيسية للتحدِّيات الصحية، ولتدنّي جودة الحياة في المدن، فتعود إلى: الافتقار إلى التخطيط الكافي للمدن والحواضر؛ وغياب الإطار القانوني القابل للتطبيق؛ وضعف الحكامة governance؛ وأدى ذلك إلى مشكلات صعبة في توفير المياه، والصرف الصحي، وإلى تلوث الهواء، وتفاقم المخاطر البيئية، والمساكن غير الآمنة، وتزايد معدّلات العنف والإصابات، ورافق ذلك كله نقص في التغطية بالخدمات الصحية، وشيوع النُظُم الغذائية غير الصحية، وأنماط الحياة التي يركن فيها الناس إلى الدَّعَة وقلة النشاط البدني. وزاد تعاطي الناس للتبغ وللأدوية غير المشروعة، وتفاقمت عوامل الاختطار الصحية المرتبطة بأنماط الحياة، تزايـداً واضحاً بين كلٍ من الفقراء والأغنياء، على حد سواء، وكل ذلك بسبب التحضر. إلا أن الفقراء والأطفال والنساء في المدن بشكل خاص، يتعرّضون للأخطار أكثر من غيرهم.

ويهدف يوم الصحة العالمي لهذا العام، ألفين وعشرة، إلى تنفيذ حملة تـتواصل طوال العام، وتستهدف وضع التحديات الصحية في المدن، ضمن جدول أعمال التنمية، على المستوى الوطني والمحلي في البلدان. كما تستهدف هذه الحملة، ضمان الالتزام السياسي على أعلى مستوى، ورفع مستوى الوعي والفهم لدى عامة الناس، وتشجيع الشراكات بين القطاعات، وإسهام المجتمع في تعزيز الصحة، وفي اتخاذ القرارات السياسية في الحضر، وبالإضافة إلى ذلك، فإن هذه الحملات تـتضمّن مبادرة عالمية غير مسبوقة، وهي "ألف مدينة وألف سيرة حياة"، وهي مبادرة تجمع بين أصحاب القرار السياسي، والمجتمعات، والأفراد، لإبراز أهمية إحلال الصحة موقع الصدارة بين الأولويات في تنمية المدن. وفي إقليم شرق المتوسط، تحمَّست المدن للانضمام إلى هذه المبادرة، وللتخطيط لها، ولتنفيذ أنشطة ذات صلة بالصحة، على أن تعمل كل مدينة وفقاً للسياق المحلي فيها.

ويسعدني أن أعلن لكم، أن مئة وتسعةً وثمانين مدينة من إقليم شرق المتوسط، قد سجلت في مبادرة ألف مدينة وألف سيرة حياة، وقد أكّدت كل مدينة منها التزامها، من خلال رسائل رسمية للتعاون أرسلها العُمَد أو المحافظون إلى منظمة الصحة العالمية لتوثيق عُرى التعاون، وإنني إذْ أتقدّم بجزيل الشكر والامتنان لهؤلاء العُمَـد والمحافظين على ما أبدوه من التزام، فإنني أؤكّد لهم أننا على مشارف مسيرة مفعمة بجهود مثمرة ومضمونة الاستمرار، تهدف لتحسين الصحة في المناطق الحضرية، وللتخفيف من انعدام العدالة الصحية.

السيدات والسادة الأعزاء،

لقد وثـّق المكتب الإقليمي ما اكتسبناه من خبرات حول التحضر والصحة في تقرير تقني، استند إلى أوراق تقنية ساهم في إعدادها ثمانية بلدان. وسيتم إصدار التقرير بشكله النهائي في هذا العام، وهو يقدِّم بيِّنات حول التحديات الصحية الكبيرة التي تواجه المناطق الحضرية في الإقليم، ونأمل أن تسهم هذه المطبوعات في التأثير على راسمي السياسات، وفي تسهيل إحداث تغيـير إيجابي في ما ينفّذ في المدن من إجراءات صحية، ولاسيَّما من خلال تنفيذ برامج المدن الصحية.

ويوضِّح التقرير، بجلاء، ما تعانيه الأحياء العشوائية والفقيرة في المدن، من معدّلات مرتفعة في وفيات الرضّع والأمهات، وفي معدلات الاكتئاب، وسوء التغذية بين الأطفال، وفي معدّلات تعاطي مواد الإدمان، وفي تفضيل الذكور على الإناث في إتاحة فرص التعليم. كما يوضِّح التقرير بجلاء ما تعانيه هذه المدن من انعدام العدالة، وتدنِّي جودة الحياة. وإذا أخذنا مدينة أريانة في تونس، على سبيل المثال، فسنجد أن معدّل وفيات الرضَّع في المناطق العشوائية للمدينة، تصل إلى موت عشرين رضيعاً، مقارنةً بموت ثمانية عشر منهم، من كل ألف مولود حي، على الصعيد الوطني. وفي منطقة بطن البقرة، وهي إحدى المناطق العشوائية في مدينة القاهرة، يوضِّح التقرير فداحة الفقر الذي يعاني الناس منه، فدَخْل كل منهم يقل عن دولارٍ واحدٍ في اليوم، إلى جانب فقدانهم فرصاً جيدةً للتعليم، والخدمات الصحية، والمياه الآمنة، والإصحاح والصرف الصحي، والمرافق التـرفيهية؛ إذْ يعيش خمسة وثمانون بالمئة من الناس، في مساكن تفتقد إلى الجدران، والأرضيات، والأسقف الملائمة.

ومما ورد في التقرير؛ أنه في منطقة سَلاَ، في المغرب، تحتل قرى الأكواخ خمسة وستين بالمئة من الأراضي ذات الملكية الخاصة، مما يوجب على قاطني تلك الأكواخ دفع الأموال إلى مُلاَّك الأراضي، وهذا مما يزيد من الإقصاء الاجتماعي لسكان المناطق العشوائية. وفي الخرطوم، عاصمة السودان، يقدّم التقرير بيِّنات على ما يلحق بقاطني الأحياء الفقيرة من وصمة، فهم يفتقدون العنوان الرسمي، ويتعذر عليهم الحصول على شهادة ميلاد، مما يحرمهم من الالتحاق بالمدارس الحكومية، إلى جانب حرمانهم من استحقاقات أخرى كثيرة. كما يلقي التقرير الضوء على القضايا الرئيسية ذات الصلة بالصحة العمومية في الخرطوم، وهي قضايا تسبب معدّلات عالية للوفيات وللأمراض، ومنها الحصبة، والإسهال، والالتهابات التنفسية الحادة، والأمراض التي يمكن توقّيها باللقاحات، والملاريا، وسوء التغذية. ومن المعروف أن الإتاحة الضئيلة للخدمات وسوء الرعاية تزيد من أخطار مراضة ووفيات الأمهات. كما أوضح التقرير معدّلاً مرتفعاً للأمراض المنقولة جنسياً.

أما في راولبندي، باكستان، فيوضح التقرير الروابط بين حرمان النساء من التعليم وبين الزواج المبتَسَر، وحجم الأسرة، وإسهال الأطفال، والأمراض التنفسية الحادة، وعدد الأطفال الذين يلتحقون بالمدارس. وقد كان من الجدير بالملاحظة أن واحداً وخمسين ونصف بالمئة من الأطفال دون سن الثالثة، ممن تشرف على تربيتهم أمهات غير متعلمات، قد أصيبوا بهجمة إسهال خلال الأسبوعين اللذين سبقا إجراء الدراسة. كما يعرض التقرير الخبرات المستفادة من برنامج المدن الصحية في جمهورية إيران الإسلامية، وفي سلطنة عُمان، وفي المملكة العربية السعودية.

الزميلات والزملاء الأكارم،

و نظراً لما تـتطلبه الأوضاع الصحية المتـردية في المناطق العشوائية من إيلاء اهتمام عاجلٍ ومُلحّ، فإنني أتوجّه إلى القائمين على تخطيط المدن، وإلى الشركاء من وكالات الأمم المتحدة، وإلى المجتمع المدني، وإلى أفراد المجتمع المحلي، وأناشدهم للعمل معاً، وتجميع الموارد، وحشد الجهود لتحسين الصحة وجودة الحياة، وضمان العدالة الصحية في الأحياء الفقيرة في المدن. أما المجالات التي تحتاج إلى إيلاء اهتمام فوري فتشمل تحسين الحكامة governance الصحية في هذه المدن، ومراجعة النُظُم الصحية في المدن، وضمان إتاحة الخدمات الرفيعة الجودة والمنصفة للجميع. كما ينبغي إيلاء اهتمام خاص، لتلبية احتياجات الأطفال، وصحتهم، ومعافاتهم. وإلى جانب ذلك كله، فإن من الضروري التـركيز على تحسين البيئة، وتوفير فرص العمل، واستدرار الدخل للفقراء، وتعليم النساء في الأحياء الفقيرة.

وأغتنم هذه المناسبة لأؤكّد الدعوة إلى توسيع نطاق برنامج المدن الصحية، وهو برنامج أطلقته منظمة الصحة العالمية عام ألف وتسعمئة وستة وثمانين، يستهدف تعزيز صحة المدن، وقد أنشئ هذا البرنامج في إقليم شرق المتوسط، عام ألف وتسعمئة وتسعة وثمانين، وقد نجح برنامج المدن الصحية في مواجهة الكثير من القضايا الصحية في المدن والحواضر.

السيدات والسادة،

ومن بين الأنشطة والفعاليات التي سيتم تنفيذها في هذا اليوم، عقد مؤتمر صحفي يدعى إليه جميع الأطراف المعنيَّة الذين شرفونا بحضورهم ومشاركتهم، وأود في هذه المناسبة أن أغتنم الفرصة لأعبر عن تقديري وامتناني لانضمام الهلال الأحمر المصري إلى المكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية أثناء المرحلة التحضيرية لمبادرة حديقة الأطفال التي كانت جزءاً من جدول أعمال المنظمة ليوم الصحة العالمي.

وفي الختام، إن من الواضح أن التنمية الصحية، في المناطق الحضرية، تـتطلب موارد إضافية، كما تـتطلّب التزام جميع المعنيـين بها، على الصعيد الوطني، وعلى الصعيد الدولي. وقد آلت جميع التقارير التي جمعناها من مختلف بلدان إقليم شرق المتوسط إلى نتيجة واحدة، مفادها أن تحسين صحة الحضر يتطلب أسلوباً متكاملاً، واستجابة قوية، وفق خطة محكمة، تعدّها الحكومة، والأوساط الأكاديمية، والمجتمع المدني. وعند ذلك فقط، سنـنجح في رأب الفجوات التنموية الأساسية في مدنـنا.

فلنعمل معاً، ولنجعل صحة المدن في صدارة أولوياتنا.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،

الدكتور حسين عبد الرزاق الجزائري
المدير الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية لإقليم شرق المتوسط