المركز الإعلامي | الأخبار | لقاء مع د. سمية شفتر التي تقدم الدعم العاجل في مجال الصحة النفسية للمتضررين من الفيضانات في درنة بليبيا

لقاء مع د. سمية شفتر التي تقدم الدعم العاجل في مجال الصحة النفسية للمتضررين من الفيضانات في درنة بليبيا

أرسل إلى صديق طباعة PDF

Meet Dr Sumaya Shaftar providing urgent mental health support to flood-affected people in Derna, Libya

11 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 - في أعقاب الفيضانات المدمرة التي ضربت ليبيا، تتعاون منظمة الصحة العالمية مع السلطات الصحية في شرق ليبيا لتوفير مجموعة متنوعة من خدمات الصحة النفسية، بدءًا من الإسعافات النفسية الأولية إلى الرعاية المتخصصة على أيدي أطباء نفسيين. وتدعم المنظمة إنشاء عيادات للصحة النفسية يعمل بها متخصصون لتلبية الاحتياجات الفورية للمتضررين ومساعدة الناجين الذين يعانون من صدمات شديدة على التعامل مع مشاعر الحزن والقلق وفقد أحبابهم وممتلكاتهم.

واليوم، سنلتقي الدكتورة سمية شفتر، وهي متخصصة صحة نفسية في الرابعة والأربعين من عمرها تعمل في مركز الرعاية الصحية الأولية في مدينة درنة الليبية. وتعاني درنة من دمار مهول بسبب الفيضانات العارمة التي أعقبت العاصفة دانيال في أيلول/ سبتمبر 2023، وحدثت عندما انهار سدان في الجبال المطلة على المدينة لتندفع مياه جارفة قدر المتخصصون كميتها بثلاثين مليون متر مكعب تقريبًا، وتكتسح كل شيء في طريقها. وقد بلغ من قوة المياه أنها محت أحياء كاملة من الوجود واجتاحت في طريقها عائلات بأكملها.

دكتورة سمية، نرجو منك وصف الوضع الحالي في المناطق المتضررة من الفيضانات وبين السكان المتضررين؟

عندما دخلت درنة لأول مرة، كانت 3 أسابيع قد مرت على الفيضانات، ورأيت بعض الناس يعيدون فتح متاجرهم ويتحركون في المدينة لتأمين احتياجاتهم. ولكنني لم أر أناسًا عاديين في الشوارع، بل رأيت أجسامًا تتحرك ووجوه لا تحمل أي تعبير عن الحزن أو الغضب أو الفرح أو أي مشاعر. كانت وجوههم خالية من التعابير!

حتى الأطفال الذين كنت أراهم كل يوم في طريقي إلى العيادة، لم يشبهوا أي أطفال عاديين يلعبون ويمرحون. بل رأيتهم بأجسامهم الضئيلة يقفون، وأبصارهم شاخصة إلى من حولهم، ولا يبدو عليهم ما يدل على ما ينظرون إليه أو يبحثون عنه.

وفي بعض أحياء درنة، لا ترى إلا مظاهر الدمار! شوارع مليئة بما خلفته الفيضانات من الأغراض المنزلية، وحطام المباني، وسيارات لا يعرف أحد من أين جاءت. لم أر الأشجار الخضراء والزهور والمناظر الطبيعية الجميلة التي كانت درنة تشتهر بها. وكلما التقيت أحد الأهالي، حتى مّن لم يفقدوا أيًا من أفراد أسرتهم أو منازلهم، قال إنه يحتاج إلى الدعم. كان الجميع يكرر "لقد فقدنا كل شيء، ولم يعد للحياة أي طعم".

ومعظم مريضاتي - اللاتي عبرت الكثيرات منهن عن فرحتهن بوجود امرأة مثلهن لتقديم المساعدة إليهن - تحدثن عن احتياجاتهن، والتي كانت مادية ونفسية، وذكرن الأشياء البسيطة التي أصبحوا يشتاقون إليها.

وأذكر يومًا بكيت فيه عندما أرسلت لي صديقة من درنة صورتان لمنزلها. في الصورة الأولى، كانت تشرب القهوة في الفناء الجميل الممتلئ بالورود حيث كانت سيارة والدها. أما في الصورة الثانية، فلم يكن قد تبقى من منزلهم إلا أنقاض بلون الطين، ولم تظهر فيها السيارة لأن الفيضانات قد جرفتها. وهاتان الصورتان توضحان مشاعر جميع سكان درنة، حتى مَن حفظ الله لهم عائلاتهم من الفيضانات.

ما الجهود التي تبذلها المنظمة لمساعدة المتضررين على مواجهة آثار الأزمة على صحتهم النفسية؟

تحاول المنظمة تقييم احتياجات السكان من خدمات الصحة النفسية، وتوفير المزيد من الفرق الطبية والأدوية اللازمة، وتخصيص أماكن لتقديم الخدمات، ودعم جهود وزارة الصحة الليبية في تقديم خدمات الصحة النفسية لجميع المتضررين من الفيضانات في درنة.

ما التحديات التي تواجه عملكم؟

هناك تحدِّيات عديدة تواجه جميع مقدِّمي خدمات الصحة النفسية في درنة خلال هذه الفترة. أول هذه التحديات، أن الشعب الليبي غير معتاد على التماس مثل هذه الخدمات، ولو كان في أشد الحاجة إليها. ومَن تغلبوا على هذا، تواجههم مشكلات في التنقل. فالفيضانات قسمت درنة إلى أجزاء يصعب التنقل بينها بسبب الأضرار التي لحقت بالطرق والجسور. وهناك كثيرون جرفت الفيضانات سياراتهم، وآخرون يتصلون بي من أماكن يتعذر الوصول إليها ويرغبون في الحصول على خدمات الصحة النفسية. وفوق كل ذلك، لا توجد وسائل نقل عامة في المدينة.

أما من تغلبوا على ترددهم في الحصول على خدمات الصحة النفسية ويستطيعون التنقل، فبعضهم لا يعرف الأماكن التي تتوافر فيها خدمات الصحة النفسية هذه الأيام. وعندما أخبر الناس أنني هنا لتقديم هذه الخدمات، يردون قائلين إنهم لم يكونوا يعرفون بوجودي.

هل يمكنك أن تحكي لنا قصة أحد الناجين الذين طلبوا الحصول على الدعم الصحي النفسي؟

مريضة تبلغ من العمر 25 عاما جاءت لي، وكانت صامتة ووجهها خالٍ من أي تعبيرات؛ لا حزن ولا غضب ولا فرح ولا أي مشاعر أخرى. وعندما بدأت تتكلم، بكت واشتكت من أنها لا تنام منذ أيام وتعاني من ضيق في الصدر وإرهاق، برغم النتائج الطبيعية لجميع فحوصها الطبية. كانت تشعر أن الحياة لم يعد لها أي معنى؛ فقد فقدت عماتها وعائلاتهن وأبناء عمومتها وأصدقائها. ومن المعجزات أنها نجت هي وأمها وأبيها وأختها، مع أن الفيضانات جرفتهم أكثر من 3 كيلومترات بعيدًا عن منزلهم. ولكن بعد نجاتها، وجدت هذه المرأة نفسها تأوي إلى منزل واحد مع أشخاص لا تعرفهم. وقالت لي "صراخ النساء والأطفال الذي سمعته في تلك الليلة لا يفارقني". وفي كل يوم يمر عليها كانت تتساءل: لماذا بقيت هي على قيد الحياة ومات الآخرون؟! وكل ذلك جعلها تفقد شهيتها للطعام. وعندما كانت تغالب نفسها وتأكل، لم تكن تشعر بطعم الأكل.

وقالت لي إنها لم تعد تجلس مع عائلتها، بل تعكف على هاتفها تشاهد مقاطع فيديو عن تلك الليلة وعن آخر الأخبار عن درنة والمفقودين. وقد فكرت في إنهاء حياتها وسألتني: "هل هناك أي شيء أستطيع شراؤه وأتناوله لأموت بدون أن أشعر بأي ألم؟"

وعندما نصحتها بالذهاب إلى أحد متخصصي الصحة النفسية أو إلى المستشفى التخصصي للأمراض النفسية، الذي يبعد أكثر من 200 كيلومتر في بنغازي، رفضت. كما رفضت أيضًا السماح لوالدها أو والدتها بالحضور إلى عيادتي. ولم يكن أمامي إلا أن أصف لها بعض الأدوية وأحيلها للحصول على جلسات علاج مع متخصص في الصحة النفسية.

وللأسف، اختفت الشابة لمدة 9 أيام، برغم أني أعطيتها رقم هاتفي للتواصل معي. لم ترد على رسائلي ومكالماتي، وظل هاتفها مغلقًا. وفي اليوم التاسع، عادت وعلى وجهها ابتسامة لم أرها من قبل وطار قلبي من الفرح عندما أدركت أنها هي. وعندما سألتها أين كانت، ردت "ألم تنصحيني بإغلاق هاتفي حتى لا أشاهد المزيد من الأخبار؟ الحمد لله، نومي أفضل الآن، وأحاول قضاء بعض الوقت مع عائلتي أو في المطبخ. ما زلت أعاني من بعض الأعراض، ولكني أستطيع النوم الآن وهذا ساعدني على التحسن".

غمرتني الفرحة وقلت لنفسي، "الحمد لله، أني لم أفقدك". أشعر من داخلي بعظمة ما يقوم به الجميع لتقديم الدعم الصحي النفسي في مدينة درنة خلال هذه الفترة، كما أشعر أن أهميته ونتائجه تستحق منا كل جهد نبذله.